
الابتكار المؤسسي يبدأ من القرار لا من الموهبة
لا تزال كثير من المؤسسات، رغم حديثها المتكرر عن الابتكار، تتعامل معه بوصفه جهدًا يعتمد على أشخاص موهوبين أو فرق متحمسة. يتم الرهان على أسماء بعينها، أو على مبادرات مؤقتة، وكأن الابتكار حالة استثنائية تظهر ثم تختفي. هذا التصور، وإن بدا منطقيًا في ظاهره، يعكس في جوهره غياب القرار الحقيقي بالتعامل مع الابتكار كمسؤولية مؤسسية، لا كمجهود فردي قابل للتبدّل والتلاشي.
التجربة العملية تثبت أن الابتكار لا يستدام عندما يُترك للموهبة وحدها. فالأفراد قد يغادرون، والفرق تتغير، والحماس بطبيعته لا يدوم. المؤسسات التي نجحت في الابتكار على المدى الطويل لم تفعل ذلك لأنها امتلكت أشخاصًا أكثر إبداعًا، بل لأنها اتخذت قرارًا واعيًا ببناء منظومة تجعل الابتكار ممارسة يومية، لا استثناءً مرتبطًا بشخص أو ظرف.
وعندما يكون الابتكار قرارًا مؤسسيًا، يتغير السؤال من: «من سيقود الابتكار؟» إلى «كيف نُديره؟». في هذه اللحظة، يغادر الابتكار مربع المبادرات المؤقتة، ويصبح جزءًا من طريقة العمل نفسها. تمامًا كما لا تعتمد المؤسسة في استدامتها المالية أو الرقمية على فرد واحد، لا يمكن أن تعتمد في قدرتها الابتكارية على أسماء مهما بلغت كفاءتها. القرارات هي التي تبني القدرات، لا النيات.
القرار الحقيقي بالابتكار يبدأ بربطه بالأهداف الاستراتيجية. فالابتكار الذي لا يخدم أولوية واضحة—سواء كانت تحسين خدمة، أو رفع كفاءة، أو تحقيق مستهدف وطني—سيتحول عاجلًا أو آجلًا إلى نشاط جانبي يسهل التخلي عنه عند أول ضغط تشغيلي أو مالي. الابتكار المؤسسي الفعّال هو الذي يعرف لماذا وُجد، وما القيمة التي يُفترض أن يضيفها، ولأي قرار استراتيجي يخدم.
كما أن أي قرار دون حوكمة يظل ناقصًا، فإن الابتكار لا يعيش في غياب الحسم. كثير من الأفكار الجيدة لا تفشل لأنها ضعيفة، بل لأنها تظل عالقة بين لجان، أو بلا مالك واضح، أو دون معايير تُنهي الجدل حول مصيرها. القرار القيادي هنا لا يقيّد الابتكار، بل يحميه من الضياع، ويمنحه مسارًا مفهومًا من الفكرة إلى التنفيذ.
ولا تقل العمليات أهمية عن القرار نفسه. جمع الأفكار ليس إنجازًا بحد ذاته، بل مجرد بداية. ما يصنع الفارق هو وجود مسار واضح ينقل الفكرة من مرحلة إلى أخرى، يسمح بالتجريب، ويقبل الإيقاف عند الحاجة، ويدعم التوسع حين يثبت النجاح. المؤسسات التي تحسم هذا المسار لا تراهن على الصدفة، بل ترفع احتمالات النجاح عبر التكرار المنهجي والتعلّم المستمر.
التمويل بدوره انعكاس مباشر لطبيعة القرار. الابتكار لا يُدار بعقلية المنح ولا بعقلية الصرف المفتوح. القرار الناضج يتجسد في تمويل مرحلي مرتبط بالتحقق والتعلّم، يعامل الابتكار كاستثمار قابل للنمو أو التوقف بناءً على معطيات واضحة. بهذه العقلية، لا يصبح الابتكار عبئًا على الميزانية، بل أداة لإدارة المخاطر وصناعة القيمة.
وأخيرًا، لا يكتمل أي قرار دون قياس. الابتكار الذي لا يُقاس لا يمكن الدفاع عنه ولا تحسينه. عندما يُربط الابتكار بمؤشرات واضحة—سواء في جودة الخدمة، أو الكفاءة التشغيلية، أو رضا المستفيدين—يتحوّل من خطاب ثقافي عام إلى لغة قرار يفهمها مجلس الإدارة والقيادة العليا. القياس هنا لا يقتل الإبداع، بل يمنحه الشرعية والاستمرارية.
الخلاصة التي تصل إليها كثير من المؤسسات بعد سنوات من التجربة بسيطة لكنها حاسمة: الابتكار لا يفشل بسبب نقص الأفكار، بل بسبب غياب القرار ببناء منظومة تحتضن هذه الأفكار وتحولها إلى قيمة. الموهبة قد تشعل الشرارة، لكن القرار وحده هو الذي يحوّل الشرارة إلى نار مستدامة. وحين تدرك القيادة ذلك، ينتقل الابتكار من كونه استثناءً مرتبطًا بالأشخاص، إلى قدرة مؤسسية تصنع المستقبل بثبات.


