
الابتكار في الثلث الأخير من الهرم Innovation at the Bottom of the Pyramid
عندما نتحدث عن الابتكار، غالبًا ما تتجه الأنظار نحو الشركات الكبرى، والأسواق المتقدمة، والتقنيات فائقة التطور التي تخدم فئة محدودة من البشر في أعلى الهرم الاجتماعي والاقتصادي. ولكن ماذا عن الملايين - بل المليارات - ممن يقبعون في قاعدة هذا الهرم؟ ماذا عن أولئك الذين يعيشون على أقل من دولارين في اليوم، ويواجهون تحديات يومية في الحصول على الماء النظيف، والرعاية الصحية، والتعليم، والخدمات المالية؟ هؤلاء لا يحتاجون إلى التكنولوجيا الفاخرة أو المنتجات المتطورة، بل إلىحلول بسيطة، ذكية، ومنخفضة التكلفة، تتناسب مع واقعهم وتُحدث فرقًا حقيقيًا في حياتهم. من هنا وُلد مفهوم"الابتكار في الثلث الأخير من الهرم"، كدعوة لإعادة النظر في من نخدم، وكيف نخدمهم.
هذا التوجه لا يعني فقط الاهتمام بالمحتاجين من باب العمل الإنساني، بل هو أيضًافرصة اقتصادية ضخمة. فالفئات ذات الدخل المحدود تمثل أغلبية السكان في كثير من دول العالم، ويمكن اعتبارها سوقًا واعدة إذا تم التعامل معها باحترام وذكاء.
ما المقصود بـ "الثلث الأخير من الهرم"؟
المصطلح مستمد من تشبيه المجتمع بهرم مقلوب حسب الدخل أو مستوى المعيشة.
قمة الهرم: الفئات الغنية أو المتوسطة العليا، وهم غالبًا من تستهدفهم الشركات الكبرى.
الوسط: الفئات المتوسطة، التي تحظى ببعض الاهتمام.
القاعدة أو الثلث الأخير: وهم الفئات الأكثر فقرًا وحرمانًا، التي تُعاني من ضعف الخدمات، وقلة الفرص، وغالبًا ما يتم تجاهلها من قبل القطاع الخاص.
رغم محدودية الدخل، فإن عدد الأفراد في هذه القاعدة يجعل منهاسوقًا ضخمة، تتجاوز 4 مليارات إنسان حول العالم.
لماذا يعتبر الابتكار في الثلث الأخير من الهرم ضرورة ملحّة؟
في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه المجتمعات ذات الدخل المنخفض، أصبح الابتكار في الثلث الأخير من الهرم ليس مجرد خيار، بلضرورة ملحّة. فالفجوات الكبيرة في الاحتياجات الأساسية، وضعف الخدمات المقدمة لهذه الفئة، تضع مسؤولية كبيرة على المبتكرين لإيجاد حلول واقعية ومؤثرة. ويمكن تلخيص أهمية الابتكار في هذا السياق من خلال النقاط التالية:
1. الاحتياج هو المحرك الأول للابتكار
الابتكار الحقيقي لا ينشأ من الرغبة في استعراض التقنيات، بل منمحاولة حل مشكلة قائمة. الفئات في قاعدة الهرم تواجه يوميًا تحديات تتعلقبشح المياه، وصعوبة النقل، وضعف البنية التحتية، وارتفاع تكاليف التعليم، وانعدام الخدمات الصحية. هذه التحديات تشكل فرصًا ذهبية لتطوير حلول بسيطة، ذكية، وقابلة للتطبيق. عندما تكون الحاجة واضحة والطلب حقيقي، فإنالابتكار يكون أكثر فاعلية، وأكثر قابلية للانتشار والاستدامة.
2. الفجوة بين العرض والطلب
الأسواق التقليدية تُبنى غالبًا لتلبية احتياجات الطبقة المتوسطة والعليا، بينما يتم تجاهل الفئات ذات الدخل المحدود بسبب تصور خاطئ بأنها "غير مربحة". لكن في الواقع، هناكفراغ كبير في السوق يمكن ملؤه من خلال منتجات وخدمات مخصصة لهذه الفئة. الابتكار هنا لا يعني فقط تقديم نسخ أرخص من منتجات موجودة، بل يتطلبإعادة تصميم الحلول من الأساس لتناسب الواقع المعيشي والاقتصادي لتلك المجتمعات.
3. التأثير الإنساني والاقتصادي
الابتكار في هذه الفئة لا يُحقق أرباحًا فقط، بل يُسهم فيتحسين جودة حياة الملايين. فعندما يحصل طفل في قرية نائية على تعليم بسيط عبر هاتف محمول، أو عندما تتمكن أسرة من تنقية المياه بأداة بسيطة ومنخفضة التكلفة، فإن هذا يُعتبر تأثيرًا مضاعفًا على مستوى الصحة، والتعليم، والتمكين الاقتصادي. كما أندمج هذه الفئة في الاقتصاد من خلال حلول مبتكرةيُعزز من النمو الشامل، ويُساهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ويقلل من الفجوة الاجتماعية والاقتصادي.
التحديات التي تواجه الابتكار في الثلث الأخير من الهرم
رغم الإمكانيات الكبيرة والفرص الواعدة التي يقدمها الابتكار في الفئات ذات الدخل المنخفض، إلا أن الطريق إلى تحقيق الأثر المطلوبليس سهلًا. هناك مجموعة من التحديات والعوائق التي تقف في وجه هذا النوع من الابتكار، وتستلزم فهمًا عميقًا للسياق المحلي وحلولاً إبداعية تتجاوز المفاهيم التقليدية. فيما يلي أبرز هذه التحديات:
1. ضعف البنية التحتية
في كثير من المناطق التي تمثل قاعدة الهرم، تعاني المجتمعات منغياب أو ضعف البنية التحتية الأساسية، مثل الكهرباء، الإنترنت، شبكات الطرق، والمياه النظيفة. هذا النقص يحد من قدرة السكان على الاستفادة من الحلول التقنية الحديثة، أو حتى الوصول إليها من الأساس. فعلى سبيل المثال، قد تكون هناك خدمة رقمية رائعة، لكنها غير مجدية في قرية لا تتوفر فيها شبكة إنترنت أو كهرباء مستقرة. لذلك، يجب على المبتكرين التفكير فيحلول بديلة، تعتمد على الطاقة الشمسية، أو التقنيات اللاسلكية، أو حتى النماذج اليدوية القابلة للتشغيل بدون موارد كبيرة.
2. محدودية القدرة الشرائية
الفئة المستهدفة في الثلث الأخير من الهرم غالبًا ما تعيش بدخل يومي محدود، ما يجعلهاعاجزة عن شراء المنتجات أو الخدمات مرتفعة التكلفة، حتى لو كانت مفيدة أو ضرورية. هذا يفرض على المبتكرين ضرورة تصميم حلولمنخفضة التكلفة وفعالة في الوقت ذاته، وهو تحدٍ ليس بالسهل، لأنه يتطلب تقليل التكاليف دون المساس بالجودة أو الأداء. كما يمكن التفكير في نماذج عمل مبتكرة، مثل الدفع بالتقسيط، أو المشاركة المجتمعية في الملكية، أو دعم منظمات غير ربحية لتسهيل الوصول للخدمة.
3. نقص البيانات الدقيقة
من أكبر التحديات التي تعيق الابتكار في هذه الفئة هوغياب البيانات الدقيقة حول الاحتياجات، السلوكيات، والتفضيلات. في كثير من الأحيان، لا تتوفر إحصائيات رسمية، ولا يوجد فهم واضح لتفاصيل الحياة اليومية في المجتمعات الفقيرة. هذا النقص يجعل من الصعب تطوير حلول مناسبة، ويؤدي أحيانًا إلىإطلاق منتجات أو خدمات غير ملائمة للواقع المحلي. لذا، فإن الابتكار الفعّال في هذا السياق يجب أن يبدأ منالبحث الميداني، والملاحظة المباشرة، والتفاعل مع المجتمع المحلي، لفهم السياق الحقيقي وصياغة حلول متجذرة فيه.
4. عدم الثقة في الحلول الخارجية
غالبًا ما تكون المجتمعات ذات الدخل المنخفضحذرة أو غير واثقة من الحلول القادمة من الخارج، خصوصًا إذا لم تُشرك في مراحل التصميم أو التطوير. يعود هذا إلى تجارب سابقة ربما فشلت أو لم تُراعِ السياق المحلي، ما يجعل أي ابتكار جديد يواجه مقاومة تلقائية أو تردد في الاستخدام. لكسب ثقة المجتمع، يجب أن يكون الابتكارنابعًا من الواقع المحلي، أو على الأقل متوافقًا معه ثقافيًا واجتماعيًا، ويُفضّل إشراك أفراد المجتمع في مراحل التصميم والتجريب لضمان القبول والاستمرارية.
خصائص الابتكار الناجح في الثلث الأخير
لكي يُحدث الابتكار أثرًا حقيقيًا في حياة الفئات ذات الدخل المحدود، لا يكفي أن يكون مبتكرًا من حيث الفكرة فقط، بل يجب أن يكونمصممًا بعناية ليتناسب مع احتياجات وواقع هذه الشريحة. فهذه الفئات تعيش في بيئات تفتقر إلى الموارد، وتعاني من تحديات اقتصادية واجتماعية معقدة، ما يجعل الخصائص التقليدية للابتكار غير كافية. يتسم الابتكار الناجح في هذا السياق بخصائص محددة، تضمن له القبول والاستدامة والتأثير الفعلي. فيما يلي أبرز هذه الخصائص التي تشكل الأساس لأي منتج أو خدمة موجهة نحو قاعدة الهرم:
1- منخفض التكلفة (Low-cost)
لكي يكون الابتكار ناجحًا في خدمة الفئات ذات الدخل المحدود، يجب أن يكونمناسبًا لقدرتهم الشرائية. فالمنتجات أو الخدمات باهظة الثمن تكون ببساطة خارج نطاق اهتمامهم، حتى لو كانت فعّالة. لذا، يعتمد الابتكار في هذا السياق على استخداممواد محلية، وتقنيات بسيطة، ونماذج عمل مرنةتساعد في تقليل التكلفة من دون التضحية بالجودة الأساسية أو الفعالية.
2- قابل للتوسع (Scalable)
النجاح لا يكون فقط في إيجاد حل لمجموعة صغيرة، بل في إمكانيةتكرار النموذج وتوسيعه ليشمل عددًا أكبر من الأشخاص والمناطق. الحلول القابلة للتوسع تعتمد على تصميم ذكي يُراعي إمكانية التوسع الجغرافي والتشغيلي دون تعقيد، وغالبًا ما تكون مبنية على شراكات مجتمعية أو نماذج أعمال اجتماعية مستدامة.
3- سهل الاستخدام (User-friendly)
غالبًا ما تكون الفئة المستهدفة من ذوي المهارات التقنية أو التعليمية المحدودة، لذلك يجب أن يكون الابتكاربسيطًا وسهل الفهم والتطبيق. كلما كان المنتج أو الخدمة أكثر وضوحًا في الاستخدام، زادت فرص تقبّله واعتماده من قِبل المجتمع المحلي. ويشمل ذلكواجهة سهلة، وإرشادات واضحة، وتجربة استخدام بديهية.
4- متجذر في الثقافة المحلية
الابتكار الناجح لا يُفرض من الخارج، بل ينبع منفهم عميق للبيئة والسياق المحلي. يجب أن يتوافق المنتج أو الخدمة معالعادات، والقيم، وأسلوب الحياةفي المجتمع المستهدف. فالحلول المستوردة التي لا تُراعي الثقافة المحلية غالبًا ما تُقابل بالرفض، مهما كانت متقدمة أو فعالة.
5- يُعتمد عليه بدون الحاجة إلى أنظمة معقدة
من أهم خصائص الابتكار في الثلث الأخير من الهرم هو أنهلا يحتاج إلى بنية تحتية معقدة أو دعم تقني متقدم. بل يجب أن يعمل بكفاءة في ظروف بسيطة، سواء في أماكن لا تتوفر فيها كهرباء منتظمة، أو في مجتمعات تفتقر إلى الإنترنت أو الموارد اللوجستية. الاعتمادية والبساطة هما أساس القبول والاستمرار.
نحو ابتكار أكثر مسؤولية وشمولًا
الابتكار الحقيقي لا يُقاس فقط بعدد الجوائز أو حجم الأرباح، بل بقدرته علىتحقيق العدالة وتوسيع الفرص للجميع. العمل في الثلث الأخير من الهرم يتطلب حساسية ثقافية، ووعي اجتماعي، واستعداد للتعلم من الواقع، وليس فقط فرض الحلول من أعلى. النجاح هنا يعني أن نبتكر معهم لا من أجلهم فقط.
في عالمٍ تتسارع فيه وتيرة التطور التكنولوجي والاقتصادي، يبقى الابتكار في الثلث الأخير من الهرم هوالاختبار الحقيقي لقيمة الابتكار وعمقه الإنساني. فالمجتمعات ذات الدخل المحدود لا تحتاج إلى حلول مبهرة بقدر ما تحتاج إلىحلول فعّالة، بسيطة، ومناسبة لواقعها. إن العمل على ابتكار منتجات وخدمات موجهة لهذه الفئة لا يفتح فقط أبوابًا جديدة في السوق، بل يُعيد تعريف معنى الابتكار بوصفهأداة للعدالة الاجتماعية والتمكين المجتمعي. لا تقتصر الفرصة هنا علىتحقيق ربح مالي، بل تمتد إلى إحداثأثر تحوليفي حياة الأفراد والمجتمعات. ومن خلال تبني فكر التصميم المتمحور حول الإنسان، وفهم السياق المحلي، وتوظيف الموارد بذكاء، يمكن للابتكار أن يكون الجسر الذييربط بين الإمكانيات المحدودة والفرص الكبيرة. إن التحديات التي تواجه الثلث الأخير من الهرم ليست معوقات، بلدعوات مفتوحة للإبداع والمسؤولية. وكل حل بسيط وفعّال يمكن أن يعني الفرق بين العجز والتمكين، وبين الحاجة والاكتفاء، وبين التهميش والمشاركة الفعالة في بناء المستقبل.