
دور الأفراد في عملية الابتكار داخل المؤسسات
لطالما ارتبط الحديث عن الابتكار بالمؤسسات والأنظمة والتكنولوجيا، إلا أن أحد الأبعاد الأساسية التي لا يجب إغفالها هودور الفردفي هذه المنظومة. ففي جوهر كل ابتكار ناجح هناك عقل مفكر، فضولي، ومبادر. الفرد هو من يلتقط الإشارات، يطرح الأسئلة غير المألوفة، يتحدى الواقع القائم، ويقود المبادرات التي تتحول لاحقًا إلى منتجات أو عمليات مبتكرة.
الأدبيات الحديثة في إدارة الابتكار تؤكد على أهمية الأفراد، ليس فقط كمساهمين، بل كعوامل محركة لنجاح الابتكار التقني والتنظيمي. فحتى في أكثر المؤسسات تنظيمًا، فإنالابتكار غالبًا ما ينبع من مبادرات فردية، وجهود غير رسمية، وفضول شخصييتجاوز حدود الدور الوظيفي الرسمي.
في هذا السياق، نسلط الضوء على ثلاث زوايا رئيسية لفهم الدور الحيوي الذي يلعبه الأفراد في العملية الابتكارية:
أهمية الأفراد في منظومة الابتكار التنظيمي.
الأدوار المختلفة التي يمكن أن يؤديها الأفراد داخل العملية الابتكارية.
الاعتبارات الثقافية والإدارية التي تؤثر على فعالية الأفراد كمبتكرين داخل المؤسسة.
أولًا: أهمية الفرد في العملية الابتكارية
تشير الدراسات إلى أن الابتكار ليس مجرد عملية مؤسسية منظمة، بل هو في جوهرهعملية بشريةتعتمد على الأفراد بقدر ما تعتمد على الموارد أو الأنظمة. وقد بيّنت الأبحاث أن وجود بنية تنظيمية قوية ليس كافيًا بمفرده لضمان النجاح الابتكاري؛ بل إنالأدوار غير الرسمية التي يؤديها الأفرادفي مختلف المستويات هي التي تصنع الفرق.
في دراسة Sheene (1991) على شركات التكنولوجيا الحيوية، وُجد أن العلماء كانوا يشعرونبمسؤولية مهنية لمتابعة المستجداتوالبحث في الأدبيات العلمية، رغم عدم وجود توجيهات مباشرة بذلك. هذا التصرف الذاتي – حتى لو شعر بعضهم بالذنب لاعتقادهم أن المديرين لا يرونه "عملًا منتجًا" – يدل علىقوة الدافع الفردي في تعزيز الابتكار.
كما أشار العديد من الباحثين إلى أن الابتكار الناجح لا يعتمد دائمًا على الهياكل الرسمية، بل على وجود أفراد يتحركون بدافع داخلي، يستكشفون الأفكار، ويربطون الموارد، ويحفزون التغيير.
ثانيًا: الأدوار الفردية في عملية الابتكار
من خلال تحليل الأدبيات، برزت مجموعة من الأدوار الأساسية التي يمكن أن يؤديها الأفراد ضمن دورة الابتكار داخل المؤسسات. قد تكون هذه الأدوار رسمية أو غير رسمية، دائمة أو مؤقتة، لكنها تُمثل عناصر حيوية في سلسلة القيمة الابتكارية.
فيما يلي أبرز هذه الأدوار، كما وردت في جدول (Roberts & Fushfield, 1981):
الأدوار الأساسية للأفراد في الابتكار:
Technical innovator (المبتكر الفني):خبير في مجال أو مجالين، يطرح أفكارًا جديدة ويرى طرقًا بديلة لتنفيذ الأمور. يُشار إليه أحيانًا بلقب "العالِم المجنون".
Technical/commercial scanner (ماسح تقني/تجاري):يجمع كميات كبيرة من المعلومات من خارج المؤسسة عبر الشبكات، خاصة فيما يخص الأسواق والتكنولوجيا.
Boundary spanner (جسر العلاقات):يعمل على ربط المؤسسة بالعالم الخارجي، من خلال العلاقات الشخصية وتوسيع الروابط العابرة للحدود التنظيمية.
Gatekeeper (حارس المعرفة):يبقى على اطلاع دائم بالتطورات الخارجية عبر المؤتمرات والمجلات وزملاء المهنة، وينقل هذه المعرفة إلى الداخل. يسهل التواصل ويعتبر مرجعًا معرفيًا داخليًا.
Product champion (رائد المنتج):يسوّق الأفكار الجديدة داخل المنظمة، ويكسب الدعم لها. يمتلك حماسة عالية، ويخاطر للدفاع عن رؤيته الابتكارية.
Project leader (قائد المشروع):يدير الفريق الابتكاري ويوفر القيادة والتنسيق والتنظيم. يوازن بين أهداف المشروع واحتياجات المؤسسة.
Sponsor (الراعي):يوفر الشرعية والدعم التنظيمي من مستويات عليا. يساعد الفريق في تجاوز العوائق التنظيمية ويوصلهم إلى الموارد المطلوبة.
كل دور من هذه الأدوار يمثل عنصرًا مكملًا للآخر. فالمبتكر قد لا يملك المهارات الإدارية، وقائد المشروع قد يحتاج إلى راعٍ يفتح له الأبواب.تكامل الأدوار وتعدد الشخصيات داخل فرق الابتكار هو ما يصنع القوة الحقيقية لأي مبادرة ابتكارية.
ثالثًا: الاعتبارات التنظيمية والثقافية لدور الفرد في الابتكار
رغم أهمية الأفراد، فإن فعالية أدوارهم ترتبط بشدة بثقافة المؤسسة، وبالبيئة التي تحفّزهم أو تكبتهم. بعض المؤسسات تُثبط التفكير الحر أو تقلل من قيمة الاستكشاف، مما يُفقد الأفراد الرغبة في المبادرة، أو يجعلهم يُخفون نشاطاتهم خوفًا من اللوم أو التقليل من شأنهم.
إن بناء ثقافة تدعم الابتكار تتطلب ما يلي:
السماح بالتجريب دون عقاب الفشل.
التشجيع على المبادرة الفردية.
تقدير التعلم الذاتي والاستكشاف.
الاعتراف بالأدوار غير الرسمية التي تخلق القيمة.
المؤسسات التي تفشل في تهيئة بيئة داعمة، حتى لو امتلكت الموارد،لن تستطيع استثمار طاقة أفرادها. الابتكار لا يُبنى فقط بالميزانيات، بل بالثقة والتشجيع والتمكين.
من تمكين الأفراد إلى صناعة المستقبل
في نهاية المطاف، فإنأعظم استثمار يمكن أن تقوم به أي مؤسسة في مسيرتها الابتكارية هو تمكين الأفراد. هؤلاء الأفراد، بفضولهم، وشغفهم، واستعدادهم للمجازفة، هم من يطلقون شرارة الابتكار، ويقودون الأفكار إلى النضج، ويجسّدون الرؤية في واقع ملموس.
لكن لا يكفي أن نُسلط الضوء على أهمية الأفراد، بل يجب أن نُعيد تصميم أنظمتنا وهياكلنا التنظيمية لتكونداعمة ومحفزة ومحترمة لدور الفرد المبتكر، سواء أكان عالمًا في المختبر، أو مدير مشروع، أو موظفًا شغوفًا يقرأ في زاوية المكتبة.
إن المستقبل لن يُصنع بالأفكار فقط، بل بالأفراد الذين يؤمنون بها، ويقاتلون من أجلها، ويقودون الآخرين نحو تحقيقها.