
القدرات الديناميكية: كيف تتجاوز المؤسسات معضلة الابتكار وتُعيد ابتكار نفسها؟
في عالمٍ يتغيّر بسرعة غير مسبوقة، تواجه المؤسسات معضلةً استراتيجيةً عميقة: كيف تحافظ على نجاحها الحالي، بينما تسعى في الوقت نفسه إلى التكيّف مع المستقبل؟ هذه هيمعضلة الابتكار، التي تتمثّل في الموازنة بين الابتكار التدريجي (الذي يحسن ما هو موجود) والابتكار الجذري (الذي يتطلب إعادة تفكير شاملة في النموذج والمنتجات والأسواق).
غالبًا ما تركز الشركات الكبرى على تحسين كفاءتها وعملياتها الحالية، مما يجعلها أكثر قدرة على تلبية احتياجات عملائها الحاليين، ولكن أقل قدرة على الابتكار الجذري أو اكتشاف أسواق جديدة. هذا الميل نحو التكرار بدلاً من التجديد يقود إلى الجمود وفقدان الميزة التنافسية بمرور الوقت.
ولكن كيف يمكن للمؤسسات الخروج من هذا المأزق؟ الجواب يكمن فيالقدرات الديناميكية.
ما هي القدرات الديناميكية؟
القدرات الديناميكية هي الإطار الذي يسمح للمؤسساتبتعديل مواردها، وإعادة تشكيل كفاءاتها، وتطوير عملياتها الداخليةبما يتماشى مع التغيرات البيئية والتكنولوجية. وقد عرّفها البروفيسورديفيد تيز (Teece)بأنها:
"قدرة المؤسسة على دمج وبناء وإعادة تكوين الكفاءات الداخلية والخارجية للتعامل مع البيئات المتغيرة بسرعة."
هذه القدرات لا تتعلق بما تفعله المؤسسة الآن، بلبما يمكن أن تفعله لاحقًاإذا أرادت أن تظل في موقع الريادة.
الفرق بين القدرات التشغيلية والقدرات الديناميكية
الوصف
القدرات التشغيلية (Operational Capabilities)
الأنشطة الروتينية اليومية التي تحافظ على كفاءة الأداء الحالي.
القدرات الديناميكية (Dynamic Capabilities)
القدرات التي تمكن المؤسسة من تعديل وتغيير قدراتها التشغيلية لمواكبة التغيرات المستقبلية.
أبعاد القدرات الديناميكية: منظومة التغيير الذكي
تتكون القدرات الديناميكية من ثلاث عمليات رئيسية، تشكل معًا منظومة متكاملة لإدارة التغيير والابتكار داخل المؤسسات:
أولًا: بُعد الاستشعار (Sensing)
يمثل الاستشعار الخطوة الأولى في بناء القدرات الديناميكية، إذ يتمثل فيقدرة المؤسسة على رصد التغيرات الخارجية واستشراف الفرص والتهديدات. يتطلب هذا البعد آليات قوية لتحليل السوق، وتفسير سلوك العملاء، وتتبع اتجاهات التكنولوجيا، والتفاعل مع المستجدات الاجتماعية والاقتصادية. المؤسسات الناجحة في هذا الجانب لا تنتظر التغيير، بل تكتشفه قبل حدوثه، وتترجمه إلى فرص استراتيجية قابلة للتنفيذ. ومن الأمثلة البارزة على ذلك، ما قامت به شركةTeslaمن استشعار مبكر لتحول السوق نحو السيارات الكهربائية، مما مكّنها من الاستثمار في بنية تحتية وتقنيات سبقت منافسيها بسنوات.
ثانيًا: بُعد الاغتنام (Seizing)
بعد استشعار الفرص، لا بد من الانتقال إلى مرحلةاتخاذ القرار والتحرك السريع لاغتنام هذه الفرص. هذا البعد يتطلب قدرات قيادية مرنة، وهياكل تنظيمية تدعم اتخاذ القرار، وآليات ذكية لتخصيص الموارد وتوجيه الاستثمارات نحو مجالات النمو. الاغتنام لا يقتصر على إطلاق منتج جديد، بل يشمل إعادة تصميم العمليات أو بناء شراكات استراتيجية أو تغيير نموذج العمل كليًا. وقد برزتMicrosoftكمثال في هذا السياق عندما استثمرت في منصة الحوسبة السحابية Azure، لتتحول من شركة برمجيات تقليدية إلى لاعب رئيسي في خدمات السحابة.
ثالثًا: بُعد إعادة التشكيل (Transforming)
يمثل هذا البعدالقدرة الجوهرية للمؤسسة على إعادة بناء نفسها من الداخل. فالمؤسسات التي ترغب في البقاء لا تكتفي بالتحرك وفق الفرص، بل تعيد ترتيب بنيتها ومواردها بما يتوافق مع التوجه الجديد. يشمل هذا إعادة تصميم العمليات، تغيير الهياكل الإدارية، تطوير الكفاءات، دمج التكنولوجيا الحديثة، وتحفيز ثقافة التعلّم والتجريب. شركةNetflixتمثل مثالًا رائعًا لهذا البعد؛ فقد تحولت من خدمة توصيل أقراص DVD إلى منصة بث رقمي عالمية، ثم إلى شركة إنتاج محتوى متكاملة، عبر عمليات إعادة تشكيل متعددة واستراتيجية.
لماذا يجب النظر لهذه الأبعاد كمنظومة مترابطة؟
لا قيمة للاستشعار إن لم يُتبعه اغتنام، ولا فائدة من الاغتنام إن لم يكن مدعومًا بإعادة تشكيل داخلية. لذلك، يجب التعامل مع هذه الأبعاد كوحدة واحدة تعمل بتكامل:
من الابتكار إلى التجدد المؤسسي
في ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم، لم يعد الابتكار ترفًا فكريًا أو خيارًا استراتيجيًا محدود الأثر، بل أصبحشرطًا أساسيًا للبقاء والنمو. ومع ذلك، فإن الابتكار الحقيقي لا يحدث من خلال أفكار فردية عابرة، بل من خلال بنية تنظيمية تمتلك القدرة علىالتحوّل المستمر، والاستجابة الذكية، والتكيّف المرنمع البيئات المتغيرة.
ومن هنا تظهرالقدرات الديناميكيةكجوهر جديد لفهم كيف تنجح المؤسسات في عالم مضطرب. هي ليست مجرد نظرية أكاديمية، بل إطار عمل عملي يُعيد تعريف طريقة عمل المؤسسات، من خلال ثلاث عمليات محورية:الاستشعار، الاغتنام، وإعادة التشكيل. هذه العمليات ليست متتالية فحسب، بل متداخلة باستمرار، تُمارس بشكل يومي في المؤسسات القادرة على التعلم السريع، واتخاذ القرار المرن، وبناء ثقافة تُمكّن الجميع من المساهمة في صناعة التغيير.
المؤسسات التي تطوّر قدراتها الديناميكية تصبح أكثر من مجرد كيانات اقتصادية؛ تصبح أنظمة حية قادرة علىالتجدد الذاتي، واستشراف المستقبل بدلًا من اللحاق به، بل وصناعته.
بلغة أخرى،الفرق بين المؤسسات التي تتراجع والمؤسسات التي تتقدم لا يكمن في مواردها، بل في قابليتها للتغيّر.
لقد أصبح من الضروري أن تسأل كل مؤسسة نفسها:
هل نملك القدرة على رؤية التغيير قبل أن يحدث؟
هل نملك الجرأة لاتخاذ قرارات حاسمة في لحظات الغموض؟
وهل لدينا المرونة لإعادة تشكيل أنفسنا من الداخل بما يتماشى مع المستقبل لا مع الماضي؟
إذا كانت الإجابة نعم، فإن المؤسسة تسير في طريق القيادة المستقبلية. وإذا كانت الإجابة لا، فإنبناء القدرات الديناميكية هو التحدي الحقيقي الذي يجب البدء به فورًا.
في النهاية، فإن النجاح في العصر الجديد لن يكون حكرًا على الأقوى أو الأكبر، بل علىالأسرع في التعلّم، والأذكى في التكيّف، والأقدر على إعادة ابتكار الذات باستمرار