
التوجه الإبداعي وعلاقته بقدراتك الإبداعية؟
التوجه "ATTITUDE" هو عبارة عن حالة ذهنية تدفع الشخص للاستجابة نحو أمر أو شخص ما بطريقة إيجابية أو سلبيّة، ويعتبر التوجه بمثابة العدسة التي ترى بها العالم، ومن خلاله نحكم على كثير من الأشياء، وتنبع منه سلوكياتنا وطريقة تعاملنا مع الأحداث، والطريقة التي نفسر بها ما يحدث لنا. فعلى سبيل المثال، إذا كان توجهك نحو وظيفتك توجهًا سلبيًا وتعتبر أن ما تتقاضاه إجحافًا بحقك، وأنّ الجهة التي تعمل لديها استغلالية؛ فكيف سيكون سلوكك وطريقة تعاطيك مع كل ما يحدث داخل المنشأة بناءً على هذا التوجه؟ هل سيكون أداؤك مرتفعًا؟ هل ستفسر الأحداث والمهام الموكلة إليك بأنّها أعمال أم أعباء؟ كيف ستفسر قرارًا سيصدر من الإدارة في تفعيل أمر معين أو تحقيق مستوى إنتاج؟ أعتقد أنّك ستتفق معي بأنّ التوجه هو المحرك للسّلوكيات وهو القوة الكامنة التي من خلالها تُفسر كثيرًا من ردود الأفعال.
"الإبداع لا يحدث بالصدفة وليس أمرًا تحدده الجينات، وليس نتاج بعض الخدع السحريّة، أو سرًّا يمكن أن تتعلمه بسهولة، ولكنه نتيجة قرارك أن تصبح مبدعًا، وعزيمتك في أن تتعلم إستراتيجيّات التفكير الإبداعيّ"
مايكل ميكالكو
في إحدى القصص التي تُروى عن أهميّة التوجّه الإيجابيّ نحو الذات، استغرب أحد مديري الشركات من قلة الإبداع في الشركة الّتي هو ممسكٌ بزمام أمورها. فطلب من مجموعة من علماء النفس البارزين اكتشاف الفرق بين الأشخاص المبدعين من غير المبدعين. بعد دراسة معمقة استمرت عامًا كاملًا، توصل العلماء إلى نتيجة مفادها أن من أهم الفروقات هو أن الموظفين المبدعين ينظرون نظرة إيجابية للعمل، ويعتبرون أنفسهم مبدعين، في حين أن غير المبدعين يعتقدون العكس.
إنّ التوجّه هو منبع السّلوكيات، فعندما يكون لدى الفرد توجّه إبداعيّ فإنّه سينعكس على نظرته الإبداعيّة لذاته، وعلى قدراته على توليد الأفكار. قل لذاتك إنّك شخص مبدع، ستتبعها استجابة تنبع من تلك النظرة، لذا ومن وجهة نظر كثير من الباحثين والكّتاب والمهتمين في حقل الإبداع والابتكار، فإنّ الحالة الذهنية أو التوجّه الإبداعيّ نحو الذات ينعكس على سلوك الشخص، فأنت هو ما تعتقده عن نفسك وتؤمن به.
الحتميّات الثلاث
يقدّم لنا ستيفن كوفي في كتابه الشهير "العادات السبع للأشخاص الأكثر فاعلية" ثلاث نظريات تشرح الطبيعة البشريّة:
النظرية الأولىالحتميّة الوراثيّة:والتي يعتقد بأنّها تعزو الطبيعة البشريّة ونتاج الشّخصيّة إلى الصفات الجينيّة التي ورثناها من آبائنا وأجدادنا. وبناءً على هذه النظرية ليس للشخص أيّ دور في تشكيل طباعِهِ التي يمتلكها، ومجموع عاداته هي نتاج صفات جينية، لذا من الصعب التغيير أو التعديل بها.
أما النظريّة الثانية فهيالحتمية النفسية: والتي تنسب طبائع البشر للوالدين؛ إذ إنّ شخصية الفرد هي نتاج لتربية الأب والأم بالطريقة التي تمّ التعامل بها معه، فنوعيّة العقاب وطرق التحفيز تسهم في صقل شخصيّة الفرد؛ بكلمات أخرى شخصيّة الفرد هي حصاد طريقة التربية التي استعملها الوالدان في تنشئة الأبناء.
أما النظرية الثالثة فهيالحتمية البيئية:والتي تعتبر أنّ شخصيّة الفرد ما هي إلاّ نتاج البيئة المحيطة، وأنّ عادات وطبيعة الأشخاص بطريقة أو بأخرى تتأثر بنوعية الأفراد الذين يتعامل معهم، مثل الزوج أو المدير أو زملاء العمل. كما أنّ الوضع الاقتصادي يلعب دورًا كبيرًا في ذلك؛ فكيف يمكن أن تكون شخصية من يمتلك الأموال، ودرس في مدارس ذات جودة عالية، كشخصيّة من تربى في بيئة فقيرة؟ وبما أنّ الاعتقاد السّائد عبر زمن طويل هو أنّ شخصية الفرد تتشكل وتثبت عند عمر محدد؛ فإنّه بالتالي ستكون طبائع الشخص ومعتقداته ثابتة لا تتغيّر.
يمكن القول أنّ النظريّات الّتي سادت في القرن الماضي، وأخصّ هنا النظرية السلوكيّة الّتي بُنيت على تجربة شهيرة للعالم الروسي بافلوف على الكلاب، قد أسهمت بشكل كبير في تشكيل هذه الحتميّات، والتّي لا تزال سائدة في هذا الزمن، لقد أسهمت النظريّة السلوكية في تشكيل بعض هذه المعتقدات، فقد أغفلت قدرة العقل البشريّ وإرادته الحرة على اتخاذ القرار وتحمل الفرد للمسؤوليّة، وكان لها دورٌ بارزٌ في تشكيل الوعيِّ البشريِّ نحو الذات.
في المقابل يقول فيكتور فرانكل أحد سجناء النازية في القرن المنصرم: "إنّ بين ردة الفعل والاستجابة مساحة من اتخاذ القرار" من هنا يمكن القول أنّ تحمل الفرد للمسؤولية تجعل منه شخصًا قادرًا على تحديد توجهه، بل وتغييره لتحقيق التوجه الإبداعي الإيجابي.
هل يمكن أن تتغيّر توجهّاتنا؟
في الشهر السّادس من الحمل تبدأ الخلايا العصبية في دماغ الجنين بالانقسام، وتبدأ معها عملية التربيط العصبيّ، ومع بلوغ سنِّ الثانية يكون بذلك قد اكتمل التشكيل العصبيِّ الوراثيِّ للطفل، ويبدأ معه أيضًا التأثير البيئيِّ والتربية والمحيط في تشكيل الجزء الآخر من شخصيته.
"لا يمكن أن تفكر بشكل إبداعيٍّ إذا كنت تعتقد أنّك غير ذلك"
وبمرور الوقت تتشكل ملامح شخصية الفرد، والطريقة التي يفكر بها، فيبدأ الطفل بمحاكاة السلوكات التي نشأ عليها، وتترسخ الطريقة التي يرى بها العالم من خلال المرشحات الإدراكيّة. ولأنّ الاعتقاد الذي ساد في القرن الماضي بأنّ عملية انقسام الخلية التي تولّد خلايا مخيّة جديدة تتباطأ عند مرحلة معينة من العمر، وتتوقف في مرحلة المراهقة تسمىالمرحلة الحرجة، فالنتيجة أنّ شخصية الفرد ثابتة لا تتغير.
الخبر السار
أظهرت الدراسات الحديثة عدم صحة كثير من المعلومات عن الدّماغ، والتّي كانت سائدة في القرن الماضي، وأسهمت هذه الاكتشافات في تغيير الطريقة التي ينظر بها الإنسان إلى ذاته. في الصفحات القليلة القادمة، سأورد لك نتائج دراسات عديدة تفند كثيرًا من المعتقدات التي تجعلك تغيّر من النظرة لذاتك ولقدراتك الإبداعية. صحيح أنّ ثمّة كثيرًا من الأمور نحن لا نملك السّيطرة عليها، ولا تقع في دائرة تأثيرنا، ولا نملك القدرة على اختيار آبائنا وأمهاتنا وأسمائنا، ولا نملك القدرة على الكثير من الأشياء الّتي لها علاقة بأشكالنا، ولا ببشرتنا وأطوالنا، ولكننا في المقابل لدينا حريّة الاختيار في طريقة ردود أفعالنا وسلوكاتنا، إنّنا نملك القدرة على ضبط الطريقة التي نفكر بها وتوجهاتنا نحو أنفسنا. كما أننا نملك القدرة على برمجة عقولنا، وتحديد الطريقة التي نفكر بها. يقول بعض العلماء إنّنا نصبح الطريقة التي نفكر بها عن أنفسنا، ويقول الفرنسي بوفون: "الأسلوب هو الشخص نفسه"، فكيف يمكن أن تكون سلوكات شخص لا يعتقد أن يكون قادرًا على توليد أفكار إبداعية؟ هل يمكن لشخص يفكر بهذه الطريقة أن يصبح مبدعًا وقادرًا على الإتيان بما هو جديد ومفيد؟ فالقناعة أساس، والإرادة أساس، والثقة الإبداعيّة أيضًا أساس