
أغاليط الإبداع: كيف شكّلت الخرافات فهمنا الخاطئ للإبداع؟
كثيرة هي القصص التي وردت في التاريخ عن لحظات انقداح الأفكار وكيف شكلت انعطافة تاريخية في حياة البشرية. مثل هذه القصص كانت تُروى بإعجاب على مدار قرون، وأسهمت في تشكيل الصورة النمطية للإبداع، بوصفه ومضة عبقرية خارقة تنزل على الفرد في لحظة غير متوقعة. ولكن مع تطور علم الأعصاب وأبحاث الدماغ، بدأت هذه الصورة في الاهتزاز، ليكتشف الباحثون والمهتمون بالإبداع أن كثيرًا مما كنا نؤمن به لا يتجاوز كونه أغاليطًا شائعة.
في هذا المقال أسلط الضوء على أبرز المفاهيم الخاطئة المرتبطة بالإبداع، والتي أسهمت في الحدّ من أهميته كمهارة قابلة للتدريب، وحصرته في دائرة "الاستثناءات" و"النوادر".
1. أغلوطة اللحظة الإبداعية
تُظهر السينما والأدب لحظة الإبداع كما لو أنها شرارة مفاجئة تقلب الموازين رأسًا على عقب، وتغيّر مجرى الأحداث. ولعل أبرز الأمثلة على هذه الأغلوطة قصة نيوتن عندما سقطت التفاحة ففكر في الجاذبية، أو قصة أرخميدس في حوض الاستحمام. مثل هذه الروايات رسخت في أذهان الناس أن الإبداع وليد لحظة حظ، لا مجهود ولا تخطيط.
الحقيقة أن هذه اللحظة هي فقط قمة جبل الجليد. الإبداع الحقيقي ينبثق من تراكم تفكير عميق، وتجريب، وإخفاقات، وبحث مستمر. اختزال هذه الرحلة في لحظة واحدة يظلم العملية بأكملها ويُقصي كثيرين ممن يظنون أن الإبداع بعيد عنهم.
2. أغلوطة الوراثة
من الأغاليط الشائعة أن الإبداع موروث جينيًا، لا يُكتسب بالتعلم أو التدريب. هذا الاعتقاد جعل البعض يستسلم لفكرة أنهم غير مبدعين بالفطرة، وبالتالي لا جدوى من المحاولة. إلا أن الدراسات الحديثة في علم النفس وعلم الأعصاب أظهرت أن البيئة والتعليم والتحفيز عوامل بالغة الأهمية في تطوير القدرات الإبداعية.
نعم، قد يكون للوراثة دور في تشكيل بعض الاستعدادات، لكنّ الإبداع في جوهره مهارة يمكن اكتسابها وتطويرها، وليست حكراً على قلّة محظوظة. تجاوز هذه الأغلوطة هو الخطوة الأولى لتحرير العقول من القيد النفسي الذي يجعل البعض يُقصي نفسه عن مساحات الابتكار والإبداع.
3. أغلوطة الخبرة
يفترض كثيرون أن الإبداع لا يمكن أن يصدر إلا عن شخص خبير متمرّس في مجاله. ومع أن الخبرة قد تكون مفيدة، إلا أنها في أحيان كثيرة قد تكون قيدًا على التفكير المرن. فالمبدع لا يُقاس فقط بمقدار معرفته السابقة، بل بقدرته على الخروج من الأنماط التقليدية، والنظر إلى المشكلة من زاوية غير متوقعة.
المفارقة أن كثيرًا من الابتكارات الثورية في مجالات متعددة جاءت من أشخاص لم يكونوا بالضرورة الأبرز أو الأقدم في تخصصهم، بل من أولئك الذين امتلكوا الشجاعة ليطرحوا أسئلة "بسيطة" لم يجرؤ الآخرون على طرحها.
لماذا يجب أن نصحح هذه المفاهيم؟
تصحيح هذه الأغاليط ليس مجرد أمر معرفي، بل هو قضية تمكين. فالإيمان بأن الإبداع ممكن لكل إنسان يفتح آفاقًا واسعة لتعليم هذه المهارة في المدارس، وتدريبها في بيئات العمل، وتمكين الأفراد من إعادة النظر في قدراتهم.
إن الإبداع لا يجب أن يبقى أسيرًا لقصص رومانسية، أو محصورًا في النخب، أو مربوطًا بالجينات فقط. بل هو مسار ناضج من التفكير والتجريب والتأمل، يمكن لأي شخص أن يسلكه إذا توافرت البيئة المناسبة والإيمان بإمكاناته.
حان الوقت لنعيد النظر في فهمنا للإبداع، وأن نتحرر من الأغاليط التي كبّلته لعقود طويلة. فالعالم لا يحتاج إلى مزيد من العباقرة "الملهمين"، بل إلى أناس عاديين يمتلكون الشغف للتجريب، والفضول للاستكشاف، والإصرار على الحلول. هؤلاء هم من سيصنعون الفرق.